چکیده:
أصول الفقه هو منهج الفقه، ومنطقه، وآلته المعرفيّة التي بها يسلك الفقيه في دروب الاستنباط. وقد أبدع المسلمون في هذا العلم، وأسّسوا في بعض مباحثه الأساسيّة مباني فهم المراد، ليخرجوا بحجّيّة الظهور العرفيّ العقلائيّ، التي شكّلت أساساً لفهم المراد الجديّ من ظواهر القرآن والسنّة. وقد تعدّى استخدام قاعدة حجّيّة الظهور الفقه إلى التفسير والكلام وغيرهما.
والعلوم تسعى دائماً - بسعي أهلها- إلى تطوير أدواتها ومناهجها؛ من هنا كان تطلّع أصول الفقه إلى روافد معرفيّة تغني آلته المنهجيّة وتدفعها. وقد أطلّ البحث على بعض محاولات التجديد أو اتجاهاته عند الأصوليّين والعلماء في العقود الأخيرة، ثمّ نحا إلى طرح السؤال المتكرّر: هل يمكن أن يُسترفد من الهرمنيوطيقا ومناهجها في قراءة النصّ الدينيّ؟
والإجابة تقتضي تحديد معنى الهرمنيوطيقا؛ فهي في بعض مراحلها كانت تعني التفسير، وربما فهمها بعضهم منهجاً للفهم. وبذا لا يتنافى منهج أصول الفقه مع جذر المصطلح وبعض تاريخه، بل هو نفسه يقوم منهجاً للتفسير وفهم المراد من النصّ الدينيّ. ولكنّ الهرمنيوطيقا الحديثة أرست نسبيّة الفهم، وتاريخيّة المقاربة التفسيريّة.
إنّ هذا البحث يريد - عبر الإجابة عن هذا السؤال - فَهْمَ إمكان استرفاد الهرمنيوطيقا في تجديد مباحث أصول الفقه، وإبرازَ أمثلة لموارد التقاطع وإمكانيّة الاشتراك -إنْ قلنا بعدم قبول منهج الأصول للسائد في الهرمنيوطيقا الفلسفيّة الحديثة والمعاصرة-؛ فأصول الفقه- من خلفيّة كلاميّة- ينظر إلى القرآن الكريم بوصفه كتاب الهدى النازل بالحقّ من الحقّ بياناً للناس، والله- تعالى- يخبرنا فيه عن واقع موجود في اللوح المحفوظ، فلا يصحّ أن تضيف ذاتيّة المفسّر بعداً لم يرده الله تعالى.
والنتيجة: أنّ أصول الفقه يحاول بناء منهج موضوعيّ معياريّ في التعامل مع النصّ الدينيّ، فيه نسبيّة في الفهم غالباً، ولكنّها نسبيّة ظنّيّة عقلائيّة رضيها الشارع، وقام القطع على اعتبارها في الفقه. وهي نسبيّة في الفهم مع وجود واقع وجوديّ تقاربه نسبيّة الفهم هذه. وأصول الفقه -بالتالي- لا يقبل تجاوز النصّ لمراد الناصّ، وخروجه من عباءة مراده، وإنْ كان يسعى إلى تحسين عمليّة الفهم دائماً. ومسألة قرائن الفهم مفتوحة جدّاً في أصول الفقه، يمكن أن تتّسع لبعض ما أورده منظّرو الهرمنيوطيقا الفلسفيّّة، لكنْ بوجهة
نظر أصوليّة.
ثمّ لماذا يكثر الكلام عن الهرمنيوطيقا وأصول الفقه والتفسير... ولا يكثر عن استرفاد أصول الفقه من علوم تتكئ عليها الهرمنيوطيقا في الفهم كالفيلولوجيا واللسانيّّات عموماً، والسيمانطيقا خصوصاً، ومن بعض مناهج العلوم الإنسانيّة؛ كعلمي النفس والاجتماع؟!