چکیده:
لاشکّ أن لجبران أسلوبه الفريد الذي يقع بين لغة النثر ولغة الشعر، ویتنافس الشعرَ من حيث الصورةُ والقدرةُ البيانية. إن جبران حتي في غلواءه الرومانسية، قد تخلّي عن ضبابية الرومانسیین وعزلتهم، وعن إطار الحدود البيانية، واختطّ لنفسه أسلوباً يستمدّ قدرته من صوره الموحية، ومن رموز تسهم في نقل معاناة الإنسان، مشوبة بالإبهام والتعقيد الفني اللذين يصلان عالم الذات بالواقع، مبتعدۀً عن غموض الرمزية الغربیة. إن رمزية جبران تترواح بين الرمزية الغربية والعربية، مع غلبة الرمزية العربیة التقليدية موضوعاً، وغلبة الغربية أسلوبا، وقد يتمّ استمداد الرموز الصوفية منها خاصة، لخلق النماذج الثورية المتخطّية للمألوف، والتی تنشد الخلاص الإنساني، فتعبير جبران بالرمز ليس مجرد حلية فنية وبلاغية، إنما هو نوع من استشراف للمستقبل وثورة علی الحاضر وتجسید لألم الإنسان من خلال الصورة الرمزية المليئة بالدلالات والکاشفة عن معاناة الإنسان. رموز جبران ملتزمة بقضايا الإنسان المعاصر في تعامله مع الوجود ومع الهموم المصيرية، وتکمن مهمة أسلوبه في الربط بين الأدب وبين الهمّ الميتافيزيقي والموضوعي. ورمزيته تمثّل قراءة جديدة في علاقة الإنسان بالوجود، مع سريان النَفَس الصوفيّ والنزعة الثورية الروحية الملتزمة في جميع دلالاتها.
خلاصه ماشینی:
إن جبران خلافا لجهود بعض الأدباء الحداثیین الذین حولوا الأدب إلی مجال لعرض الثقافات وجروه إلی الغموض التام، وأبعدوه عن «عتبة الفهم وأحالوا بلاغ المبدع متعذرا علی الفهم» (خیر بک، 1986م: 175)، فقد استمد الرمزیة من أقرب طریقها، وهو استلهام طریقتها فی الإیحاء والجنوح إلی الذات والصور الفنیة الموحیة، سواء فی التصاویر أو فی المفردات التی لها ظلال نفسیة تدوی فی وجدان الإنسان، فالغموض والإبهام بمعناهما المعروف الذی یؤدی إلی سقوط العمل الأدبی عن دائرة الفهم، أبعد ما یکون عن العمل الجبرانی، إنما کل ما هناک نوع من التعقید الفنی الذی یکسب العمل الأدبی قیمته الخاصة، ویجنبه عن السطحیة والمباشرة، وبالتالی عن إلقاء الخطب وملامسة الواقع فی صورته المباشرة، فهذا الأمر یتجلی بوضوح فی مقالاته التی تتناول موضوعات إنسانیة شاملة، وتتعرض لمعاناة الإنسان فی شتی صورها فی أسلوب موح عمیق الدلالة، یتفتق ألم الإنسان فی أعماقه، دون أن ینغلق المعنی والدلالة علی المتلقی.
ومن أهم البواعث التی جنبت الأدب الجبرانی عن الغموض الرمزی الغربی، هی أن القسم الأوفر والأعمق من آثار جبران یقع فی النثر، والرمزیة بمفهومها الغربی المعروف لا تتفق بصورة تامة وطبیعة النثر، ولیس بمقدور النثر أن یحقق أهداف الرمزیة فی غایتها المرجوة، خاصة تلک الملائمة التامة بین الأدب والموسیقی والهمس بتموجات التجارب الذاتیة علی أنغام الموسیقی وإیقاع الکلمات، ولکن إذا کان الأسلوب الجبرانی حتی فی نثره یقترب من هذا التلاؤم بین الأدب وبین الموسیقی والإبهام، للإیقاع فی عملیة التعبیر، إلا أن طبیعة الموضوع التی تتعلق نوعا ما بأهداب الواقع، قد حالت بینه وبین اللغة الرمزیة المقتربۀ من اللمح الخاطف والشطح، وحتی فی المقالة التی تنزع بطبیعتها نزعة ذاتیة أشبه ما تکون ببدایة القصیدة الغنائیة، وتتماشی مع النزعة الرمزیة، فإن جبران یتأرجح فیها بین الذاتیة والموضوعیة، مع تفضیل الجانب الموضوعی علی الذاتی، وإن تراءت فیها جوانب رمزیة فی النزوع إلی الهموم الذاتیة والإنسانیة، إلا أن صلتها بالجانب الموضوعی باتت أمرا أکیدا، بحیث إنها تتناول الهموم الإنسانیة فی صمیمها، بمسحة من الرمز تعلو وتنخفض وتکشف عن نفسها فی الصور الإیحائیة المتعددة الدلالة، وفی عدم المجاهرة بما قصد إلیه الکاتب، وفی لفه فی قالب من الرمز الفنی، کما نجد فی مقالة«حفار القبور» و«بنت الأسد» و«الضفادع» و«بناة الجسور» ومقالات أخری تعالج بأسلوبها الرمزی والفنی الجوانب الاجتماعیة والواقع الإنسانی، دون أن تغرق فی الذاتیة أو تتسم بالإنطوائیة.